تنامي الشعور القومي والإحساس بالذات:
وربما كان السبب في بقاء النعرة القومية لـــدى الفـرس هـو صعوبة الوصول الى مختلف اقاليم فارس الوعرة المترامية الأطراف، إضافة إلى أن الفرس كانوا قبل الاسلام أمة حاكمة مسيطرة على كثير من الأقاليم المجاورة(2) ، فليس سهلا عليهم الذوبان في العرب الذين كانوا ينظرون إليهم في العهد الساساني بمنتهى الاستخفاف بينما شعوب عريقة أخرى كمصر رأت في العرب مخلصين لها من نير الإستعمار الروماني لذلك فرحت بقومهم وذابت في العرب ولم تتمسك بفرعونيتها البائدة بل نظرت إلى تلك الفترة نظرتها الى عهد الطواغيت من الملوك المتألهين . وقد زاد الفرس ميلاً الى الاعتزاز بأمجادهم في أواخر العهد الاموي الذي أثار النعرات القبلية(1) بين العرب انفسهم من جهة وبين العرب والموالي من جهة اخرى. مما أشعر الفرس بالمهانة وأنهم دون العرب فقامت حركة الشعوبية ترد الصاع صاعين. وقد استقل بقايا المجوس هذه الحركة فأثاروا الروح العربية القومية ونفخوا في نارها ونجحوا نجاحات محدودة في ايجاد هوة بين الفرس المسلمين والعرب الفاتحين مما هيأ المجال فيما بعد لقيام العصبيات القومية ونشوء الديولات المستقلة في اطراف الدولة الاسلامية البعيدة عن المركز في بغداد(2) . وقد اغتنم دعاة العباسيين هذه الفرصة فأرسلوا دعاتهم(3) الى خراسان حيث أقبل عليهم الفرس الغاضبون من السياسة الأموية المتعجرفة، وقام أبو مسلم الخراساني بجمع الطاقات الحبيسة وتوجيهها لإسقاط الحكم الأموي وساعده في ذلك وجود صراع قبلي دامي بين العرب اليمانية والقيسية في خراسان خاصة، فاتحد مع اليمانية ضد القيسية الامويين(4) وهكذا صارت خراسان مركز التعبئة الاول للدعوة العباسية ومنها انطلقت الرايات العباسية السوداء نحو الغرب -العراق- وزحزحت المقاومة الأموية حتى سقطت دولة بني العباس في عام 132هـ وعلى راسها السفاح ثم المنصور الذي كافأ أبا مسلم -بعدما أحس بخطره- . هنا أحس الفرس بأنهم قد غدر بهم إلا أنهم استسلموا ظاهريا للسيطرة العباسية القوية، ومع ذلك فقد ظلت الدولة العباسية تعتمد اعتمادا كبيرا على جنودها من الخراسانيين لفترة طويلة نسبياً. (حتى مجيء المعتصم) واخذ النفوذ الفارسي في الحضارة والثقافة والعادات ينمو وينتشر في ظل الدولة العباسية(1) -وكان من وزراء العباسيين كلهم من الفرس تقريباً. وغلبت الروح الفارسية على مظاهر الحياة حتى الازياء والمطاعم والمشارب والاحتفالات القديمة -كالنوروز(2) – عادت للظهور بشكل قومي ولافت. ولم ير العباسيون بدّاً من مراعاة جانب الفرس فعاملوهم بروح المساواة واستوزروهم واعتمدوا عليهم في كثير من شؤون الادارة والحكم(3) ، ومن جهة اخرى نهض الفرس بأعباء خدمة االاسلام والثقافة الاسلامية وعلوم اللغة العربية بكل قوة(4) ، وكانوا مذهبيا مع الدولة أي مذهب أهل السنة والجماعة وخضعوا للعباسيين واعترفوا لهم بالسيادة المطلقة، وان يكن هناك بعض الناس مشكوكا في اعتقادهم- فقد كان العباسيون متساهلين نسبيا فلم يحاسبوا الناس على ارائهم الا اذا كانت تنذر بخطر على الدولة لذلك ظهرت كثير(5) من الفرق والآراء المخالفة لروح الجماعة فلم تعامل وتقمع بقسوة الا في حالات نادرة (كالحلاج). وارتضى الفرس وعلا شأنهم في العهد العباسي وخاصة في ايام البرامكة الذين فوض اليهم الرشيد في مبدأ خلافته امور الدولة كلها ثم اوقفهم عند حدهم بعدما رأى ارتفاع شأنهم ونكبهم كما هو مشهور في التاريخ . وسعى البرامكة وكثير من الفرس الآخرين، لنشر الثقافة المشتركة الاسلامية لدى البلاط العباسي الذي كان قد تأثر بشكل مستمر بالثقافة الشرقية الايرانية، ولكن مع هذا الوصف كانوا لا ينسون في الغالب أصولهم حتى أن البرامكة سعوا تأييدا لأصالتهم العرقية أن يصلوا شجرة نسبهم إلى موبذ مجوسي، مع أنهم كانوا في الواقع من أسرة دينية بوذية من نوبهار في بلخ في شمالي أفغانستان حالياً . وهكذا فعل الشيعة حين أعطوا أهمية بالغة لكون والدة الإمام الرابع لديهم (الامام زين العابدين) سليلة أسرة ملكية ايرانية، وتسمى جهانشاه ومن أحفاد يزدجرد الثالث(1) . وبدهي أن العرب لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذه المتغيرات، وفي مقابل الاخبار التي وضعت عن فضائل الفرس وحب النبـي صلى الله عليه وسلم لهم، بدأوا ينشرون الآراء التي تقلل من أهمية الفرس ويظهرون استعداد اللغة العربية لقبول المتغيرات المختلفة واستجابتها للمتطلبات وكانوا يروون الأحاديث تأييداً لآرائهم(2) . ولكن اذا غضننا الطرف عن هذه الأمور فإن القول بسقوط البرامكة المفاجىء كان رد فعل عربي في مقابل هجوم العنصر الفارسي اكثر من كونه أمراً شخصياً هو أمر مشكوك فيه أصلا، لأن هذه الحادثة لم تضعف نفوذ الفرس بتاتاً بل على العكس فقد وجد ناحية الشرق -إيران- وعددا من القواد الفرس، ووجدت كذلك عدة أسر حاكمة من الايرانيين، وكان أولها سلسلة الطاهرية حيث حكمت بقرار رسمي من الخليفة المأمون، والمأمون وجد قبولاً عاماً في الشرق لمقام أمر الايرانية خاصة، ومن هنا استولى على الخلافة بمساعدة وزيره الفضل بن السهل وبحماية الفرس، ولم يستمر طويلا حتى وجهت اليه الاعترافات بأنه يريد أن يجعل أحد العلويين (الامام الرضا) خليفته كي يضمن سيادة الفرس(3) . وفي هذ ا الجو برزت الطبقة المثقفة الإيرانية التي نمت تحت ظل الثقافة الإسلامية بشكل جعل المجادلات والمحاورات بين العرب والفرس في مستوى علمي ومعنوي مشترك . وعندما رجح الخليفة المأمون كفة الفرس على العرب برز عدد من الأدباء المشهورين؛ كالجاحظ(1) وقبله أبو نواس الذي عدّ نفسه إيرانيا، بدأ هؤلاء يبرزون محاسن الفرس ومفاخرهم ويمدحونهم ويحطون من قيمة العرب ويعدونهم أحيانا طبقة غير مثقفة . وفي الظاهر فإن الناس من كلا الفريقين يشجعون هذه المحاورات(2) وواضح أنه في الجهة المقابلة لم تكن الحملات قليلة ولم يكن صعبا على الجاحظ ان يستهزىء بالفرس كالعرب(3) تماماً، يذكر مؤرخو الفرس أمجادهم ورواياتهم وسننهم القديمة، وبدأ رجال كحمزة الأصبهاني(4) والدينوري يؤلفون كتبهم بتأثير من الروح الوطنية، وقد صرح هؤلاء بآرائهم وعقيدتهم الاسلامية على أنهم خصصوا القسم الأعظم من كتبهم لتدوين الحوادث الايرانية القديمة أكثر مما خصصوا لتاريخ العرب والقرآن والرسل الذين هم طلائع الدين! وإلى جانب ذلك كان الشعراء يبرزون أصلهم الإيراني بافتخار كبير(5) . وأما الدفاع عن دين زرادشت فقد كان بدافع الروح الوطنية وليس الدينية(1) . وهذه التطورات أدّت إلى نهضة الشعوبية(2) التي انصهرت فيها الحركات الوطنية الفارسية، وقد حقرت هذه الطائفة العرب في كتاباتها ومؤلفاتها واشعارها واستهزاءهم بها محتجين بآية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ}(3) ، و { إنما المؤمنون إخوة}(4) ، على أن الفرس إذا لم يكونوا أفضل وأعلم من العرب فانهم مساوون لهم ولذا سموا أهل التسوية، وواضح أن العرب كامثال محمد، عبدالله بن قتيبة بن مسلم لم يسكتوا أمام هذه الهجمات(5) . وإلى جانب هذه الحركة أيضاً برزت حركة التأليف والكتابة بالفارسية من جديد وتميزت بأشعار الحماسة والأشعار التاريخية، ولم يكن الطاهريون قد رغبوا في إحياء الثقافة الإيرانية، بل إن الامير عبدالله (330-313هـ) لم يقبل كتاب (الطاهر بالفارسية) وكان قد جمع فيه الأحكام وأقضية شيروان قائلا: إن الكتاب والسنة كافيان لاتباعه، ثم أمر به فألقي في الماء”(6) . ولكن حكومة يعقوب بن الليث الصفار وأتباعه اشتهروا بأنهم دعاة الوطنية(7) الايرانية، وكانت لديهم رغبة شديدة في أن تؤلف في بلاطهم الكتب الفارسية إلا أنهم لم يكونوا ذوي حظ وافر من العلم والمعرفة، كما ان البويهيين الشيعة ايضا لم تكن لديهم القدرة على هذا، ولكن الروح الايرانية لم تبلغ رواجها لأول مرة الا على يد سلسلة كانت تحكم مركز الثقافة الإيرانية(1) يعني خراسان وهم سلسلة آل سامان ومركزهم بخارى، وكانوا يحبون أن يعدوا من الأسرة الساسانية وحتى (الأكمينية)، ولكنهم في الحقيقة كانوا سلسلة من الحكام الإيرانيين المتحمسين للثقافة الإيرانية، وكان لهم من التأثير حداً جعل الأسرة الحاكمة من سلالة الأتراك الغزنويين مثلاً يتعصبون للغة الفارسية إلى درجة أنهم أمكن ان يعدوا ورثة السامانيين، وكان هذا الأمر في عهد فقهاء الحنفية يفتون بجواز التكبيرة وقراءة القرآن في الصلاة باللغة الفارسية، وكان هناك علماء في الواقع لهم الجرأة على فتوى كهذه(1) . ولم تقف الروح الايرانية عند حدّ مبارزة العرب بالقلم والثقافة ونشر الكتب القومية الجديدة التي وجدت أو بنقل الروح الايرانية إلى الاسلام؟ أو إلى بعض المذاهب التابعة له، بل تعدتها إلى المؤسسات التي لم تكن مرتبطة ببلاط الخلافة حيث كانوا يطمحون إلى تشكيل دولتهم الساسانية أو الهخامشية كما تذكر قصصهم تماماً، وفي طبرستان أعدمت النساء اللواتي تزوجن من العرب 166، 167هـ(2) وخطط في الديلم لإسقاط الخلافة -بواسطة الحركات المذهبية والسياسية الهدامة كالقرامطة والمزدكية لتقام في تيسفون -المدائن- وليس في بغداد تخت الكسروية وتاجها مرة أخرى(3) ، وفي عام (334هـ) سجن اسبهذ مازيار الطبرستاني بسبب تآمره مع امير لآشروسنة (الافشين) ثم قتل ولم يمر مائة عام على هذه الحادثة (يعني عام 319هـ) حتى قام مرداويج الديلمي بالتخطيط لإقامة دولة فارسية، ولقد بقيت الاراضي الجنوبية لبحر الخرز ولمدة طويلة مركزا للوجود الايراني القديم(4) . ومع أن هذه المساعي التي لم تصل إلى الهدف المنشود لاستحالتها، إلا ان وجود طبقة من القواد السياسيين المحليين وتدوين العلم والأدب باللغة الفارسية كان خدمة أكيدة تمهيداً لاستقلال البلاد . وإلى جانب محاولات مهمة في ميدان الشعر والتاريخ (ترجمة الطبراني للبلعمي) والعلوم الدينية والعلوم الطبيعية (لكتاب الأدوية لموفق الدين بن الهروي الذي هذّب مرة أخرى بيد الأسدي عام 477هـ) . كان الأثر العالمي للفردوسي أي الشاهنامه دليلاً على الوعي القومي والاستقلال الذاتي حيث أن الفردوسي كان يتشدق بأمجاد المجوس القديمة وكان يكره العرب المسلمين بشدة ولذا نرى الفرس دائماً يمجدونه ويعظمونه وكان الفردوسي يعطي لأشعاره صبغة متوقدة في أشعاره، وهو في قالب التشيع يحاول أن يعيد إيران إلى القومية الفارسية والدعوة القومية من وجهة نظر الاسلام دعوة رجعية تثير العصبيات الجاهلية لذلك أمر الإسلام بتركها، وقد سماها النبـي نتنة في الحديث الشريف: “دعوها(1) فإنها نتنة.”
إنتهى.
رابطة أهل السنــــــــــــــة في إيران.
http://www.isl.org.uk/modules.php?na…rticle&sid=140
الأوسمة: تنامي الشعور القومي والإحساس
اترك تعليقًا